قال السيف :-
بسم الله الخافض الرافع، وأنزلْنَا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع، أما بعد حمد الله الذي أنزل آيةَ
السيفِ
فعظَّمَ بها حرمة الَجْرح وآمن خيفةَ الخيف، والصلاة على الذي نفذَّ بالسيف سطور الطروس،
وخدمته
الأقلام ماشية على الرءوس، وعلى آله وصحبه الذين أُرْهِفَتْ سيوفهم، وبُنِيَتْ بها على كسر
الأعداء
حروفهم، فإن السيف عظيم الدولة شديد الصّولة، محا أسطار البلاغة، وأساغ ممنوع الإساغة،
من
اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب، وكيف لا وفي حَدِّه اَلْحدُّ بين الجدِّ واللِعبِ ؟!
فإن كان القلم شاهداً، فالسيف قاض، وإن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعَهُ السيف بفعل ماض،
، ما هو كالقلم المُشَبَّه بقوم عرُوُّا عن لبوسهم، ثم نُكسوا كما قيل على رُءُوسهم، فكأن
السيف
خُلِق من ماءٍ دافق، أو كوكب راشق مقدراً في السّرْد، فهو الجوهر الفَرْد، لا يُشترى كالقلم بثمن
بخس،
فقال القلم :-
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ في الحلية وهو في الخصام غيرُ مُبيِن، يُفاخرُ وهو القائمُ عن الشِمال، وأنا الجالس
على
اليمين؟! أنا المخصوصُ بالرأي وأنت المخصوص بالصَّدَى، أنا آلة الحياة وأنت آلة الردى، ما
لِنْتُ إلا
بعد دخول السعير، وما حُدّدت إلا عن ذنبٍ كبير، أنت تنفع في العمر ساعة، وأنا أُفني العُمْرَ في
الطاعة، أنت للرَّهَب، وأنا للرَّغَب، وإذا كان بَصَرُك حديداً فبصري ماءُ ذهب، أين تقليدُكَ من
اجتهادي،
وأين نجاسة دمك من تطهير مِدادي ؟
قال السيف :-
أمثلك يُعَيِّرُ مثلي بالدماء؟! فطالما أمرتُ بعض فراخي ـ وهي السكين ـ فأصبحت من النفاثات
في العقد
يا مسكين، فأخلَتْ من الحياة جُثمانك، وشقّت أنفك وقطعت لسانك.
إني
مملوك كمالك، فإنك كناسك، أسلك الطريق واقطع العلائق.
فقال القلم :-
أما أنا فأبن ماءِ السماءِ , وأليف الغدير وحليف الهواء، أما أنت فابن النار والدخان وناثرُ
الأعمار
وخَوَّان الإخوان تفصل ما لا يُفصل وتقطعُ ما أمر الله به أن يُوصَل، لا جرم أن صَعَّرَ السيف خده
وصقل
قفاه , وسُقيِ ماءً حميماً فَقَطّع مِِعَاه، يا غُرَاب البين , ويا عُدَّة الحْينِ، ويا مُعْتَلّ العين، ويا ذا
الوجهين،
كم أفنيت وأعدمت ؟ وأرملْتَ وأيْتَمْتُ ؟
قال السيف :-
يا ابن الطين ! ألست ضامراً وأنت بطين ؟! كم جَرَيت بعكس وتصرَّفت في مكس وزَوَّرْت
وَّحرفت، و نكّرت وعرّفت، وسَطّرت هجواً وشتما ً، وخلّدت عاراً وذمًّا، أبشر بفرط رَوْعتك،
وشدة خِيفتك، إذا قِسْتَ بياض صحيفتي بسواد صحيفتك، فألِنْ خطابك فأنت قصير المدة،
فلما رأى القلمُ السيفَ قد احتد، ألان له من خطابهِ ما اشتد وقال :-
أما الأدب فيؤخذ عنِّي، وأما اللطف فيُكتسب منِّي، فإن لِنْتَ لنتُ، وإن أحسنتَ أحسنتُ، نحن أهل
السمعِ
والطاعةِ، ولهذا نجمعُ في الدواةِ الواحدةِ منَّا جماعة، وأما أنتم فأهلُ الحدةِ والخلافِ، ولهذا لا
يجمعون
بين سيفين في غلاف.
قال السيف :-
أمَكْراً ودعوى عِفّة ؟ لأمرٍ ما جدع قصير أنفه ! لو كنتَ كما زعمتَ ذا أدبٍ , لما قابلتَ رأسَ
الكاتبِ
فقال القلم :-
صَهْ فصاحبُ السيفِ بلا سعادةٍ، كأعزل.
قال السيف :-
مهْ فقلمُ البليغِ بغير حظٍ مغزل.
فقال القلم :-
أنا أزكى وأطهر.
قال السيف :-
أنا أبهى وأبهر.
فتلا ذو القلم لقلمه :-
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر:1).
وتلا صاحب السيف لسيفه :-
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2).
فتلا ذو القلم لقلمه :-
( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو جندل الأزدي:
بعد هذه المناظرة الرائعة المثيرة تأملت التاريخ الإسلامي فوجدتُ أن الذي يرفعُ القلمَ دونَ سيفٍ
يذِلّ،
والذي يرفعُ السيفَ دونَ قلمٍ يضلّ ويزلّ، ومن يرفعهما معاً فإلى مبتغاه يهتدي ويصل , ورحم
الله شيخ
الإسلام ابن تيمية إذ قال: (لا يقوم الدين إلا بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر وكفى بربك هادياً
ونصيراً ).